الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله: (باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع) قد صنف البخاري في هذه المسألة جزءا منفردا، وحكى فيه عن الحسن وحميد بن هلال أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. قال البخاري: ولم يستثن الحسن أحدا. وقال ابن عبد البر: كل من روى عنه ترك الرفع في الركوع والرفع منه روى عنه فعله إلا ابن مسعود. وقال محمد بن نصر المروزي: أجمع علماء الأمصار على مشروعية ذلك إلا أهل الكوفة. وقال ابن عبد البر: لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما إلا ابن القاسم. والذي نأخذ به الرفع على حديث ابن عمر، وهو الذي رواه ابن وهب وغيره عن مالك، ولم يحك الترمذي عن مالك غيره، ونقل الخطابي وتبعه القرطبي في المفهم أنه آخر قولي مالك وأصحهما، ولم أر للمالكية دليلا على تركه ولا متمسكا إلا بقول ابن القاسم. وأما الحنفية فعولوا على رواية مجاهد أنه صلى خلف ابن عمر فلم يره يفعل ذلك. وأجيبوا بالطعن في إسناده لأن أبا بكر بن عياش راويه ساء حفظه بآخره، وعلى تقدير صحته فقد أثبت ذلك سالم ونافع وغيرهما عنه، وستأتي رواية نافع بعد بابين، والعدد الكثير أولى من واحد، لاسيما وهم مثبتون وهو ناف، مع أن الجمع بين الروايتين ممكن وهو أنه لم يكن يراه واجبا ففعله تارة وتركه أخرى. ومما يدل على ضعفه ما رواه البخاري في " جزء رفع اليدين " عن مالك أن ابن عمر كان إذا رأى رجلا لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصا، واحتجوا بحديث ابن مسعود " أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه عند الافتتاح ثم لا يعود " أخرجه أبو داود، ورده الشافعي بأنه لم يثبت، قال: ولو ثبت لكان المثبت مقدما على النافي، وقد صححه بعض أهل الحديث، لكنه استدل به على عدم الوجوب، والطحاوي إنما نصب الخلاف مع من يقول بوجوبه كالأوزاعي وبعض أهل الظاهر، ونقل البخاري عقب حديث ابن عمر في هذا الباب عن شيخه علي بن المديني قال: حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الركوع والرفع منه لحديث ابن عمر هذا، وهذا في رواية ابن عساكر. وقد ذكره البخاري في " جزء رفع اليدين " وزاد: وكان علي أعلم أهل زمانه. ومقابل هذا قول بعض الحنفية أنه يبطل الصلاة. ونسب بعض متأخري المغاربة فاعله إلى البدعة، ولهذا مال بعض محققيهم كما حكاه ابن دقيق العيد إلى تركه درءا لهذه المفسدة. وقد قال البخاري في " جزء رفع اليدين ": من زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركه. قال: ولا أسانيد أصح من أسانيد الرفع. انتهى. والله أعلم. وذكر البخاري أيضا أنه رواه سبعة عشر رجلا من الصحابة، وذكر الحاكم وأبو القاسم بن منده ممن رواه العشرة المبشرة، وذكر شيخنا أبو الفضل الحافظ أنه تتبع من رواه من الصحابة فبلغوا خمسين رجلا. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ وَيَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَيَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ الشرح: قوله: (أخبرنا عبد الله) هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. وأفادت هذه الطريق تصريح الزهري بإخبار سالم له به. قوله: (عن أبيه) سماه غير أبي ذر فقالوا " عن عبد الله بن عمر". قوله: (حين يكبر للركوع) أي عند ابتداء الركوع، وهو مقتضى رواية مالك بن الحويرث المذكورة في الباب حيث قال " وإذا أراد أن يركع رفع يديه " وسيأتي في " باب التكبير إذا قام من السجود " من حديث أبي هريرة " ثم يكبر حين يركع". قوله: (ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع) أي إذا أراد أن يرفع. ويؤيده رواية أبي داود من طريق الزبيدي عن الزهري بلفظ " ثم إذا أراد أن يرفع صلبه رفعهما حتى يكونا حذو منكبيه " ومقتضاه أنه يبتدئ رفع يديه عند ابتداء القيام من الركوع، وأما رواية ابن عيينة عن الزهري التي أخرجها عنه أحمد وأخرجها عن أحمد أبو داود بلفظ " وبعد ما يرفع رأسه من الركوع " فمعناه بعد ما يشرع في الرفع لتتفق الروايات. قوله: (ولا يفعل ذلك في السجود) أي لا في الهوى إليه ولا في الرفع منه كما في رواية شعيب في الباب الذي بعده حيث قال " حين يسجد ولا حين يرفع رأسه " وهذا يشمل ما إذا نهض من السجود إلى الثانية والرابعة والتشهدين، ويشمل ما إذا قام إلى الثالثة أيضا لكن بدون تشهد لكونه غير واجب وإذا قلنا باستحباب جلسة الاستراحة لم يدل هذا اللفظ على نفي ذلك عند القيام منها إلى الثانية والرابعة، لكن قد روى يحيى القطان عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا هذا الحديث وفيه " ولا يرفع بعد ذلك " أخرجه الدار قطني في الغرائب بإسناد حسن. وظاهره يشمل النفي عما عدا المواطن الثلاثة، وسيأتي إثبات ذلك في موطن رابع بعد بباب. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ رَأَى مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ إِذَا صَلَّى كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ هَكَذَا الشرح: قوله: (عن خالد) هو الحذاء. وفي رواية المستملي والسرخسي " حدثنا خالد". قوله: (إذا صلى كبر ورفع يديه) في رواية مسلم " ثم رفع " وزاد مسلم من رواية نصر بن عاصم عن مالك بن الحويرث " حتى يحاذي بهما أذنيه " ووهم المحب الطبري فعزاه للمتفق. قوله: (وحدث) أي مالك بن الحويرث، وليس معطوفا على قوله " رأى " فيبقى فاعله أبو قلابة فيصير مرسلا. *3* وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ الشرح: قوله: (باب إلى أين يرفع يديه) لم يجزم المصنف بالحكم كما جزم به قبل وبعد جريا على عادته فيما إذا قوى الخلاف، لكن الأرجح عنده محاذاة المنكبين لاقتصاره على إيراد دليله. قوله: (وقال أبو حميد الخ) هذا التعليق طرف من حديث سيأتي في " باب سنة الجلوس في التشهد " وسنذكر هناك من عرفنا اسمه من أصحابه المذكورين إن شاء الله تعالى. قوله: (حذو منكبيه) بفتح المهملة وإسكان الذال المعجمة أي مقابلهما، والمنكب مجمع عظم العضد والكتف، وبهذا أخذ الشافعي والجمهور. وذهب الحنفية إلى حديث مالك بن الحويرث المقدم ذكره عند مسلم، وفي لفظ له عنه حتى يحاذي بهما فروع أذنيه، وعند أبي داود من رواية عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر بلفظ " حتى حاذتا أذنيه " ورجح الأول لكون إسناده أصح. وروى أبو ثور عن الشافعي أنه جمع بينهما فقال: يحاذي بظهر كفيه المنكبين وبأطراف أنامله الأذنين. ويؤيده رواية أخرى عن وائل عند أبي داود بلفظ " حتى كانتا حيال منكبيه، وحاذى بإبهاميه أذنيه " وبهذا قال المتأخرون من المالكية فيما حكاه ابن شاس في الجواهر لكن روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه في الافتتاح، وفي غيره دون ذلك، أخرجه أبو داود. ويعارضه قول ابن جريج: قلت لنافع أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهن؟ قال: لا. ذكره أبو داود أيضا وقال: لم يذكر رفعهما دون ذلك غير مالك فيما أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلَاةِ فَرَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ يُكَبِّرُ حَتَّى يَجْعَلَهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ فَعَلَ مِثْلَهُ وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَعَلَ مِثْلَهُ وَقَالَ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يَسْجُدُ وَلَا حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ الشرح: قوله: (وإذا قال سمع الله لمن حمده فعل مثله) ظاهره أنه يقول التسميع في ابتداء ارتفاعه من الركوع، وسيأتي الكلام عليه بعد أبواب قليلة. (فائدة) : لم يرد ما يدل على التفرقة في الرفع بين الرجل والمرأة، وعن الحنفية يرفع الرجل إلى الأذنين والمرأة إلى المنكبين لأنه أستر لها. والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب رفع اليدين إذا قام من الركعتين) أي بعد التشهد، فيخرج ما إذا تركه ونهض قائما من السجود لعموم قوله في الرواية التي قبله " ولا حين يرفع رأس من السجود"، ويحتمل حمل النفي هناك على حالة رفع الرأس من السجود لا على ما بعد ذلك حين يستوي قائما. وأبعد من استدل بقول سالم في روايته " ولا يفعل ذلك في السجود " على موافقة رواية نافع في حديث هذا الباب حيث قال " وإذا قام من الركعتين " لأنه لا يلزم من كونه لم ينفه أنه أثبته بل هو ساكت عنه. وأبعد أيضا من استدل برواية سالم على ضعف رواية نافع، والحق أنه ليس بين روايتي نافع وسالم تعارض، بل في رواية نافع زيادة لم ينفها سالم، وستأتي الإشارة إلى أن سالما أثبتها من وجه آخر. الحديث: حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ ابْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مُخْتَصَرًا الشرح: قوله: (حدثنا عياش) هو بالمثناة التحتانية وبالمعجمة وهو ابن الوليد الرقام، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى، وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص. قوله: (ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم) في رواية أبي ذر " إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم " قال أبو داود: رواه الثقفي يعني عبد الوهاب عن عبيد الله فلم يرفعه وهو الصحيح، وكذا رواه الليث بن سعد وابن جريج ومالك يعني عن نافع موقوفا، وحكي الدار قطني في العلل الاختلاف في وقفه ورفعه وقال: الأشبه بالصواب قول عبد الأعلى. وحكى الإسماعيلي عن بعض مشايخه أنه أومأ إلى أن عبد الأعلى أخطأ في رفعه، قال الإسماعيلي: وخالفه عبد الله بن إدريس وعبد الوهاب الثقفي والمعتمر يعني عن عبيد الله فرووه موقوفا عن ابن عمر. قلت: وقفه معتمر وعبد الوهاب عن عبيد الله عن نافع كما قال، لكن رفعاه عن عبيد الله عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أخرجهما البخاري في " جزء رفع اليدين " وفيه الزيادة، وقد توبع نافع على ذلك عن ابن عمر، وهو فيما رواه أبو داود وصححه البخاري في الجزء المذكور من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام في الركعتين كبر ورفع يديه " وله شواهد منها حديث أبي حميد الساعدي وحديث علي بن أبي طالب أخرجهما أبو داود وصححهما ابن خزيمة وابن حبان. وقال البخاري في الجزء المذكور: ما زاده ابن عمر وعلي وأبو حميد في عشرة من الصحابة من الرفع عند القيام من الركعتين صحيح، لأنهم لم يحكوا صلاة واحدة فاختلفوا فيها وإنما زاد بعضهم على بعض، والزيادة مقبولة من أهل العلم. وقال ابن بطال: هذه زيادة يجب قبولها لمن يقول بالرفع. وقال الخطابي: لم يقل به الشافعي، وهو لازم على أصله في قبول الزيادة. وقال ابن خزيمة: هو سنة، وإن لم يذكره الشافعي فالإسناد صحيح، وقد قال: قولوا بالسنة ودعوا قولي. وقال ابن دقيق العيد: قياس نظر الشافعي أنه يستحب الرفع فيه لأنه أثبت الرفع عند الركوع والرفع منه لكونه زائدا على من اقتصر عليه عند الافتتاح، والحجة في الموضعين واحدة، وأول راض سيرة من يسيرها. قال: والصواب إثباته، وأما كونه مذهبا للشافعي لكونه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي ففيه نظر. انتهى. ووجه النظر أن محل العمل بهذه الوصية ما إذا عرف أن الحديث لم يطلع عليه الشافعي، أما إذا عرف أنه اطلع عليه ورده أو تأوله بوجه من الوجوه فلا، والأمر هنا محتمل. واستنبط البيهقي من كلام الشافعي أنه يقول به لقوله في حديث أبي حميد المشتمل على هذه السنة وغيرها: وبهذا نقول. وأطلق النووي في الروضة أن الشافعي نص عليه، لكن الذي رأيت في الأم خلاف ذلك فقال في " باب رفع اليدين في التكبير في الصلاة " بعد أن أورد حديث ابن عمر من طريق سالم وتكلم عليه: ولا نأمره أن يرفع يديه في شيء من الذكر في الصلاة التي لها ركوع وسجود إلا في هذه المواضع الثلاثة. وأما ما وقع في أواخر البويطي: يرفع يديه في كل خفض ورفع، فيحمل الخفض على الركوع والرفع على الاعتدال، وإلا فحمله على ظاهره يقتضي استحبابه في السجود أيضا وهو خلاف ما عليه الجمهور، وقد نفاه ابن عمر. وأغرب الشيخ أبو حامد في تعليقه فنقل الإجماع على أنه لا يشرع الرفع في غير المواطن الثلاثة، وتعقب بصحة ذلك عن ابن عمر وابن عباس وطاوس ونافع وعطاء كما أخرجه عبد الرزاق وغيره عنهم بأسانيد قوية، وقد قال به من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وأبو علي الطبري والبيهقي والبغوي وحكاه ابن خويز منداد عن مالك وهو شاذ. وأصح ما وقفت عليه من الأحاديث في الرفع في السجود ما رواه النسائي من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن نصر ابن عاصم عن مالك بن الحويرث " أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في صلاته إذا ركع، وإذا رفع رأسه من ركوعه، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من سجوده حتى يحاذي بهما فروع أذنيه " وقد أخرج مسلم بهذا الإسناد طرفه الأخير كما ذكرناه في أول الباب الذي قبل هذا، ولم ينفرد به سعيد فقد تابعه همام عن قتادة عند أبي عوانة في صحيحه. وفي الباب عن جماعة من الصحابة لا يخلو شيء منها عن مقال، وقد روى البخاري في " جزء رفع اليدين " في حديث على المرفوع " ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد " وأشار إلى تضعيف ما ورد في ذلك. (تنبيه) : روى الطحاوي حديث الباب في مشكله من طريق نصر بن علي عن عبد الأعلى بلفظ " كان يرفع يديه في كل خفض ورفع وركوع وسجود وقيام وقعود وبين السجدتين ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك " وهذه رواية شاذة، فقد رواه الإسماعيلي عن جماعة من مشايخه الحفاظ عن نصر بن علي المذكور بلفظ عياش شيخ البخاري، وكذا رواه هو وأبو نعيم من طريق أخرى عن عبد الأعلى كذلك. قوله: (رواه حماد بن سلمة عن أيوب الخ) وصله البخاري في الجزء المذكور عن موسى بن إسماعيل عن حماد مرفوعا ولفظه " كان إذا كبر رفع يديه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع". قوله: (ورواه ابن طهمان) يعني إبراهيم عن أيوب وموسى بن عقبة، وهذا وصله البيهقي من طريق عمر بن عبد الله بن رزين عن إبراهيم بن طهمان بهذا السند موقوفا نحو حديث حماد وقال في آخره " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك". واعترض الإسماعيلي فقال: ليس في حديث حماد ولا ابن طهمان الرفع من الركعتين المعقود لأجله الباب، قال: فلعل المحدث عنه دخل له باب في باب، يعني أن هذا التعليق يليق بحديث سالم الذي في الباب الماضي. وأجيب بأن البخاري قصد الرد على من جزم بأن رواية نافع لأصل الحديث موقوفة وأنه خالف في ذلك سالما كما نقله ابن عبد البر وغيره، وقد تبين بهذا التعليق أنه اختلف على نافع في وقفه ورفعه لا خصوص هذه الزيادة، والذي يظهر أن السبب في هذا الاختلاف أن نافعا كان يرويه موقوفا ثم يعقبه بالرفع، فكأنه كان أحيانا يقتصر على الموقوف أو يقتصر عليه بعض الرواة عنه، والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة) أي في حال القيام. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو حَازِمٍ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِسْمَاعِيلُ يُنْمَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ يَنْمِي الشرح: قوله: (كان الناس يؤمرون) هذا حكمه الرفع لأنه محمول على أن الآمر لهم بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي. قوله: (على ذراعه) أبهم موضعه من الذراع، وفي حديث وائل عند أبي داود والنسائي " ثم وضع يده اليمنى على ظهره كفه اليسرى والرسغ والساعد " وصححه ابن خزيمة وغيره، وأصله في صحيح مسلم بدون الزيادة، والرسغ بضم الراء وسكون السين المهملة بعدها معجمة هو المفصل بين الساعد والكف، وسيأتي أثر على نحوه في أواخر الصلاة، ولم يذكر أيضا محلهما من الجسد. وقد روى ابن خزيمة من حديث وائل أنه وضعهما على صدره، والبزار عند صدره، وعند أحمد في حديث هلب الطائي نحوه. وهلب بضم الهاء وسكون اللام بعدها موحدة، وفي زيادات المسند من حديث علي أنه وضعهما تحت السرة وإسناده ضعيف. واعترض الداني في أطراف الموطأ فقال: هذا معلول، لأنه ظن من أبي حازم، ورد بأن أبا حازم لو لم يقل لا أعلمه الخ لكان في حكم المرفوع، لأن قول الصحابي كنا نؤمر بكذا يصرف بظاهره إلى من له الأمر وهو النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع فيحمل على من صدر عنه الشرع، ومثله قول عائشة كنا نؤمر بقضاء الصوم فإنه محمول على أن الآمر بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم. وأطلق البيهقي أنه لا خلاف في ذلك بين أهل النقل والله أعلم. وقد ورد في سنن أبي داود والنسائي وصحيح ابن السكن شيء يستأنس به على تعيين الآمر والمأمور، فروى عن ابن مسعود قال " رآني النبي صلى الله عليه وسلم واضعا يدي اليسرى على يدي اليمنى فنزعها ووضع اليمنى على اليسرى " إسناده حسن، قيل: لو كان مرفوعا ما احتاج أبو حازم إلى قوله لا أعلمه الخ، والجواب أنه أراد الانتقال إلى التصريح، فالأول لا يقال له مرفوع وإنما يقال: له حكم الرفع، قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل، وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع، وكأن البخاري لحظ ذلك فعقبه بباب الخشوع. ومن اللطائف قول بعضهم: القلب موضع النية، والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل يديه عليه. قال ابن عبد البر: لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ، ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره. وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال، وصار إليه أكثر أصحابه، وعنه التفرقة بين الفريضة والنافلة. ومنهم من كره الإمساك. ونقل ابن الحاجب أن ذلك حيث يمسك معتمدا لقصد الراحة. قوله: (قال أبو حازم) يعني راويه بالسند المذكور إليه (لا أعلمه) أي سهل بن سعد (إلا ينمي) أوله وسكون النون وكسر الميم، قال أهل اللغة: نميت الحديث إلى غيري رفعته وأسندته وصرح بذلك معن بن عيسى وابن يوسف الإسماعيلي والدار قطني، وزاد ابن وهب: ثلاثتهم عن مالك بلفظ " يرفع ذلك"، ومن اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي ينميه فمراده يرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يقيده". قوله: (وقال إسماعيل ينمي ذلك ولم يقل ينمي) الأول بضم أوله وفتح الميم بلفظ المجهول، والثاني وهو المنفي كرواية القعنبي، فعلى الأول الهاء ضمير الشأن فيكون مرسلا لأن أبا حازم لم يعين من نماه له، وعلى رواية القعنبي الضمير لسهل شيخه فهو متصل. وإسماعيل هذا هو ابن أبي أويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي في الجمع. وقرأت بخط مغلطاي هو إسماعيل بن إسحاق القاضي، وكأنه رأى الحديث عند الجوزقي والبيهقي وغيرهما من روايته عن القعنبي فظن أنه المراد، وليس كذلك لأن رواية إسماعيل بن إسحاق موافقة لرواية البخاري، ولم يذكر أحد أن البخاري روى عنه وهو أصغر سنا من البخاري وأحدث سماعا، وقد شاركه في كثير من مشايخه البصريين القدماء: ووافق إسماعيل بن أبي أويس على هذه الرواية عن مالك ابن سويد بن سعيد فيما أخرجه الدار قطني في الغرائب. (تنبيه) حكى في المطالع أن رواية القعنبي بضم أوله من أنمى، قال: وهو غلط؛ وتعقب بأن الزجاج ذكر في " كتاب فعلت وأفعلت ": نميت الحديث وأنميته، وكذا حكاه ابن دريد وغيره. ومع ذلك فالذي ضبطناه في البخاري عن القعنبي بفتح أوله من الثلاثي، فلعل الضم رواية القعنبي في الموطأ، والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب الخشوع في الصلاة) سقط لفظ " باب " من رواية أبي ذر. والخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية، وتارة من فعل البدن كالسكون، وقيل: لا بد من اعتبارهما حكاه الفخر الرازي في تفسيره. وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة. ويدل على أنه من عمل القلب حديث على " الخشوع في القلب " أخرجه الحاكم. وأما حديث " لو خشع هذا خشعت جوارحه " ففيه إشارة إلى أن الظاهر عنوان الباطن. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا وَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلَا خُشُوعُكُمْ وَإِنِّي لأَرَاكُمْ وَرَاءَ ظَهْرِي الشرح: حديث أبي هريرة من هذا الوجه سبق الكلام عليه في " باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة " من أبواب القبلة. وأورد فيه أيضا حديث أنس من وجه آخر ببعض مغايرة. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَوَ اللَّهِ إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي وَرُبَّمَا قَالَ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي إِذَا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ الشرح: قوله: (عن أنس) عند الإسماعيلي من رواية أبي موسى عن غندر التصريح بقولي قتادة " سمعت أنس بن مالك". قوله: (أقيموا الركوع والسجود) أي أكملوهما. وفي رواية معاذ عن شعبة عن الإسماعيلي " أتموا " بدل أقيموا. قوله: (فوالله إني لأراكم من بعدي) تقدم الكلام على معنى هذه الرواية. وأغرب الداودي الشارح فحمل البعدية هنا على ما بعد الوفاة؛ يعني أن أعمال الأمة تعرض عليه، وكأنه لم يتأمل سياق حديث أبي هريرة حيث بين فيه سبب هذه المقالة، وقد تقدم في الباب المذكور ما يدل على أن حديث أبي هريرة وحديث أنس في قضية واحدة، وهو مقتضى صنيع البخاري في إيراده الحديثين في هذا الباب، وكذا أوردهما مسلم معا. واستشكل إيراد البخاري لحديث أنس هذا لكونه لا ذكر فيه للخشوع الذي ترجم له، وأجيب بأنه أراد أن ينبه على أن الخشوع يدرك بسكون الجوارح إذ الظاهر عنوان الباطن. وروى البيهقي بإسناد صحيح عن مجاهد قال " كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود " وحدث أن أبا بكر الصديق كان كذلك. قال وكان يقال: ذاك الخشوع في الصلاة. واستدل بحديث الباب على أنه لا يجب إذ لم يأمرهم بالإعادة، وفيه نظر. نعم في حديث أبي هريرة من وجه آخر عند مسلم " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ثم انصرف فقال: يا فلان ألا تحسن صلاتك " وله في رواية أخرى " أتموا الركوع والسجود " وفي أخرى " أقيموا الصفوف " وفي أخرى " لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود " وعند أحمد " صلى بنا الظهر وفي مؤخر الصفوف رجل فأساء الصلاة " وعنده من حديث أبي سعيد الخدري أن بعض الصحابة تعمد المسابقة لينظر هل يعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا؟ فلما قضى الصلاة نهاه عن ذلك. واختلاف هذه الأسباب يدل على أن جميع ذلك صدر من جماعة في صلاة واحدة أو في صلوات، وقد حكى النووي الإجماع على أن الخشوع ليس بواجب، ولا يرد عليه قول القاضي حسين: إن مدافعة الأخبثين إذا انتهت إلى حد يذهب معه الخشوع أبطلت الصلاة. وقاله أيضا أبو زيد المروزي، لجواز أن يكون بعد الإجماع السابق أو المراد بالإجماع أنه لم يصرح أحد بوجوبه، وكلاهما في أمر يحصل من مجموع المدافعة وترك الخشوع، وفيه تعقب على من نسب إلى القاضي وأبى زيد أنهما قالا أن الخشوع شرط في صحة الصلاة، وقد حكاه المحب الطبري وقال: هو محمول على أن يحصل في الصلاة في الجملة لا في جميعها، والخلاف في ذلك عند الحنابلة أيضا، وأما قول ابن بطال: فإن قال قائل فإن الخشوع فرض في الصلاة، قيل له بحسب الإنسان أن يقبل على صلاته بقلبه ونيته يريد بذلك وجه الله عز وجل ولا طاقة له بما اعترضه من الخواطر. فحاصل كلامه أن القدر المذكور هو الذي يجب من الخشوع، وما زاد على ذلك فلا. وأنكر ابن المنير إطلاق الفرضية وقال: الصواب أن عدم الخشوع تابع لما يظهر عنه من الآثار وهو أمر متفاوت، فإن أثر نقصا في الواجبات كان حراما وكان الخشوع واجبا وإلا فلا. وقد سئل عن الحكمة في تحذيرهم من النقص في الصلاة برؤيته إياهم دون تحذيرهم برؤية الله تعالى لهم، وهو مقام الإحسان المبين في سؤال جبريل كما تقدم في كتاب الإيمان " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " فأجيب بأن في التعليل برؤيته صلى الله عليه وسلم تنبيها على رؤية الله تعالى لهم، فإنهم إذا أحسنوا الصلاة لكون النبي صلى الله عليه وسلم يراهم أيقظهم ذلك إلى مراقبة الله تعالى مع ما تضمنه الحديث من المعجزة له صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكونه يبعث شهيدا عليهم يوم القيامة فإذا علموا أنه يراهم تحفظوا في عبادتهم ليشهد لهم بحسن عبادتهم. *3* الشرح: قوله: (باب ما يقول بعد التكبير) في رواية المستملي " باب ما يقرأ " بدل " ما يقول " وعليها اقتصر الإسماعيلي. واستشكل إيراد حديث أبي هريرة إذ لا ذكر للقراءة فيه. وقال الزين بن المنير: ضمن قوله ما يقرأ ما يقول من الدعاء قولا متصلا بالقراءة، أو لما كان الدعاء والقراءة يقصد بهما التقرب إلى الله تعالى استغنى بذكر أحدهما عن الآخر كما جاء " علفتها تبنا وماء باردا". وقال ابن رشيد: دعاء الافتتاح يتضمن مناجاة الرب والإقبال عليه بالسؤال، وقراءة الفاتحة تتضمن هذا المعنى، فظهرت المناسبة بين الحديثين. الحديث: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الشرح: قوله: (كانوا يفتتحون الصلاة) أي القراءة في الصلاة، وكذلك رواه ابن المنذر والجوزقي وغيرهما من طريق أبي عمر الدوري وهو حفص بن عمر شيخ البخاري فيه بلفظ " كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين " وكذلك رواه البخاري في " جزء القراءة خلف الإمام " عن عمرو بن مرزوق عن شعبة وذكر أنها أبين من رواية حفص بن عمر. قوله: (بالحمد لله رب العالمين) بضم الدال على الحكاية. واختلف في المراد بذلك فقيل: المعنى كانوا يفتتحون بالفاتحة، وهذا قول من أثبت البسملة في أولها، وتعقب بأنها إنما تسمى الحمد فقط، وأجيب بمنع الحصر، ومستنده ثبوت تسميتها بهذه الجملة وهي " الحمد لله رب العالمين " في صحيح البخاري أخرجه في فضائل القرآن من حديث أبي سعيد بن المعلى " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن " فذكر الحديث وفيه قال " الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني " وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. وقيل المعنى كانوا يفتتحون بهذا اللفظ تمسكا بظاهر الحديث، وهذا قول من نفى قراءة البسملة، لكن لا يلزم من قوله كانوا يفتتحون بالحمد أنهم لم يقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم سرا، وقد أطلق أبو هريرة السكوت على القراءة سرا كما في الحديث الثاني من الباب، وقد اختلف الرواة عن شعبة في لفظ الحديث: فرواه جماعة من أصحابه عنه بلفظ " كانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين " ورواه آخرون عنه بلفظ " فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم " كذا أخرجه مسلم من رواية أبي داود الطيالسي ومحمد بن جعفر، وكذا أخرجه الخطيب من رواية أبي عمر الدوري شيخ البخاري فيه، وأخرجه ابن خزيمة من رواية محمد بن جعفر باللفظين، وهؤلاء من أثبت أصحاب شعبة، ولا يقال هذا اضطراب من شعبة لأنا نقول قد رواه جماعة من أصحاب قتادة عنه باللفظين، فأخرجه البخاري في " جزء القراءة " والنسائي وابن ماجه من طريق أيوب وهؤلاء والترمذي من طريق أبي عوانة والبخاري في " جزء القراءة " وأبو داود من طريق هشام الدستوائي والبخاري فيه وابن حبان من طريق حماد بن سلمة والبخاري فيه والسراج من طريق همام كلهم عن قتادة باللفظ الأول، وأخرجه مسلم من طريق الأوزاعي عن قتادة بلفظ " لم يكونوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم"، وقد قدح بعضهم في صحته بكون الأوزاعي رواه عن قتادة مكاتبة، وفيه نظر فإن الأوزاعي لم ينفرد به فقد رواه أبو يعلى عن أحمد الدورقي والسراج عن يعقوب الدورقي وعبد الله بن أحمد بن عبد الله السلمي ثلاثتهم عن أبي داود الطيالسي عن شعبة بلفظ " فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم". قال شعبة قلت لقتادة: سمعته من أنس؟ قال: نحن سألناه. لكن هذا النفي محمول على ما قدمناه أن المراد أنه لم يسمع منهم البسملة، فيحتمل أن يكونوا يقرءونها سرا، ويؤيده رواية من رواه عنه بلفظ " فلم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " كذا رواه سعيد بن أبي عروبة عند النسائي وابن حبان وهمام عند الدار قطني وشيبان عند الطحاوي وابن حبان وشعبة أيضا من طريق وكيع عنه عند أحمد أربعتهم عن قتادة. ولا يقال هذا اضطراب من قتادة لأنا نقول: قد رواه جماعة من أصحاب أنس عنه كذلك: فرواه البخاري في " جزء القراءة " والسراج وأبو عوانة في صحيحه من طريق إسحاق بن أبي طلحة والسراج من طريق ثابت البناني والبخاري فيه من طريق مالك بن دينار كلهم عن أنس باللفظ الأول، ورواه الطبراني في الأوسط من طريق إسحاق أيضا وابن خزيمة من طريق ثابت أيضا والنسائي من طريق منصور بن زاذان وابن حبان من طريق أبي قلابة والطبراني من طريق أبي نعامة كلهم عن أنس باللفظ النافي للجهر، فطريق الجمع بين هذه الألفاظ حمل نفي القراءة على نفي السماع ونفي السماع على نفي الجهر، ويؤيده أن لفظ رواية منصور بن زاذان " فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم"، وأصرح من ذلك رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة بلفظ " كانوا يسرون بسم الله الرحمن الرحيم " فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب كابن عبد البر، لأن الجمع إذا أمكن تعين المصير إليه. وأما من قدح في صحته بأن أبا سلمة سعيد بن يزيد سأل أنسا عن هذه المسألة فقال " إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه ولا سألني عنه أحد قبلك " ودعوى أبي شامة أن أنسا سئل عن ذلك سؤالين فسؤال أبي سلمة " هل كان الافتتاح بالبسملة أو الحمدلة " وسؤال قتادة " هل كان يبدأ بالفاتحة أو غيرها " قال: ويدل عليه قول قتادة في صحيح مسلم " نحن سألناه " انتهى. فليس بجيد، لأن أحمد روى في مسنده بإسناد الصحيحين أن سؤال قتادة نظير سؤال أبي سلمة، والذي في مسلم إنما قاله عقب رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة، ولم يبين مسلم صورة المسألة، وقد بينها أبو يعلى والسراج وعبد الله بن أحمد في رواياتهم التي ذكرناها عن أبي داود أن السؤال كان عن افتتاح القراءة بالبسملة، وأصرح من ذلك رواية ابن المنذر عن طريق أبي جابر عن شعبة عن قتادة قال " سألت أنسا: أيقرأ الرجل في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم " فظهر اتحاد سؤال أبي سلمة وقتادة وغايته أن أنسا أجاب قتادة بالحكم دون أبي سلمة، فلعله تذكره لما سأله قتادة بدليل قوله في رواية أبي سلمة " ما سألني عنه أحد قبلك " أو قاله لهما معا فحفظه قتادة دون أبي سلمة فإن قتادة أحفظ من أبي سلمة بلا نزاع، وإذا انتهى البحث إلى أن محصل حديث أنس نفي الجهر بالبسملة على ما ظهر من طريق الجمع بين مختلف الروايات عنه فمتى وجدت رواية فيها إثبات الجهر قدمت على نفيه، لا لمجرد تقديم رواية المثبت على النافي لأن أنسا يبعد جدا أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مدة عشر سنين ثم يصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسا وعشرين سنة فلم يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة، بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم كأنه لبعد عهده به، ثم تذكر منه الجزم بالافتتاح بالحمد جهرا ولم يستحضر الجهر بالبسملة، فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر. وسيأتي الكلام على ذلك في " باب جهر المأموم بالتأمين " إن شاء الله قريبا. وترجم له ابن خزيمة وغيره " إباحة الإسرار بالبسملة في الجهرية " وفيه نظر لأنه لم يختلف في إباحته، بل في استحبابه، واستدل به المالكية على ترك دعاء الافتتاح، وحديث أبي هريرة الذي بعده يرد عليه، وكأن هذا هو السر في إيراده، وقد تحرر أن المراد بحديث أنس بيان ما يفتتح به القراءة، فليس فيه تعرض لنفي دعاء الافتتاح. (تنبيه) : وقع ذكر عثمان في حديث أنس في رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة عند البخاري في " جزء القراءة " وكذا في رواية حجاج بن محمد عن شعبة عند أبي عوانة، وهو في رواية شيبان وهشام والأوزاعي. وقد أشرنا إلى روايتهم فيما تقدم. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ هُنَيَّةً فَقُلْتُ بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ قَالَ أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ. الشرح: قوله: (حدثنا أبو زرعة) هو ابن عمرو بن جرير البجلي. قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت) ضبطناه بفتح أوله من السكوت، وحكى الكرماني عن بعض الروايات بضم أوله من الإسكات، قال الجوهري: يقال تكلم الرجل ثم سكت بغير ألف، فإذا انقطع كلامه فلم يتكلم قلت أسكت. قوله: (إسكاتة) بكسر أوله بوزن إفعالة من السكوت، وهو من المصادر الشاذة نحو أثبته إثباتة، قال الخطابي: معناه سكوت يقتضي بعده كلاما مع قصر المدة فيه، وسياق الحديث يدل على أنه أراد السكوت عن الجهر لا عن مطلق القول، أو السكوت عن القراءة لا عن الذكر. قوله: (قال أحسبه قال هنية) هذه رواية عبد الواحد بن زياد بالظن، ورواه جرير عند مسلم وغيره وابن فضيل عند ابن ماجه وغيره بلفظ " سكت هنية " بغير تردد، وإنما اختار البخاري رواية عبد الواحد لوقوع التصريح بالتحديث فيها في جميع الإسناد. وقال الكرماني: المراد أنه قال - بدل إسكاتة - هنية. قلت: وليس بواضح، بل الظاهر أنه شك هل وصف الإسكاتة بكونها هنية أم لا، وهنية بالنون بلفظ التصغير، وهو عند الأكثر بتشديد الياء، وذكر عياض والقرطبي أن أكثر رواة مسلم قالوه بالهمزة، وأما النووي فقال: الهمز خطأ. قال: وأصله هنوة فلما صغر صار هنيوة فاجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم أدغمت. قال غيره: لا يمنع ذلك إجازة الهمز، فقد تقلب الياء همزة. وقد وقع في رواية الكشميهني هنيهة بقلبها هاء، وهي رواية إسحاق والحميدي في مسنديهما عن جرير. قوله: (بأبي وأمي) الباء متعلقة بمحذوف اسم أو فعل والتقدير أنت مفدي أو أفديك، واستدل به على جواز قول ذلك، وزعم بعضهم أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم. قوله: (إسكاتك) بكسر أوله وهو بالرفع على الابتداء. وقال المظهري شارح المصابيح: هو بالنصب على أنه مفعول بفعل مقدر أي أسألك إسكاتك، أو على نزع الخافض.انتهى. والذي في روايتنا بالرفع للأكثر، ووقع في رواية المستملي والسرخسي بفتح الهمزة وضم السين على الاستفهام. وفي رواية الحميدي " ما تقول في سكتتك بين التكبير والقراءة " ولمسلم " أرأيت سكوتك " وكله مشعر بأن هناك قولا لكونه قال " ما تقول " ولم يقل هل تقول؟ نبه عليه ابن دقيق العيد قال: ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم كما استدل غيره على القراءة باضطراب اللحية. قلت: وسيأتي من حديث خباب بعد باب، ونقل ابن بطال عن الشافعي أن سبب هذه السكتة للإمام أن يقرأ المأموم فيها الفاتحة، ثم اعترضه بأنه لو كان كذلك لقال في الجواب: أسكت لكي يقرأ من خلفي. ورده ابن المنير بأنه لا يلزم من كونه أخبره بصفة ما يقول أن لا يكون سبب السكوت ما ذكر.انتهى. وهذا النقل من أصله غير معروف عن الشافعي ولا عن أصحابه، إلا أن الغزالي قال في الإحياء: إن المأموم يقرأ الفاتحة إذا اشتغل الإمام بدعاء الافتتاح. وخولف في ذلك، بل أطلق المتولي وغيره كراهة تقديم المأموم قراءة الفاتحة على الإمام. وفي وجه إن فرغها قبله بطلت صلاته، والمعروف أن المأموم يقرؤها إذا سكت الإمام بين الفاتحة والسورة، وهو الذي حكاه عياض وغيره عن الشافعي، وقد نص الشافعي على أن المأموم يقول دعاء الافتتاح كما يقوله الإمام، والسكتة التي بين الفاتحة والسورة ثبت فيها حديث سمرة عند أبي داود وغيره. قوله: (باعد) المراد بالمباعدة محو ما حصل منها والعصمة عما سيأتي منها، وهو مجاز لأن حقيقة المباعدة إنما هي في الزمان والمكان، وموقع التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مستحيل فكأنه أراد أنه لا يبقى لها منه اقتراب بالكلية. وقال الكرماني: كرر لفظ " بين " لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض. قوله: (نقني) مجاز عن زوال الذنوب ومحو أثرها، ولما كان الدنس في الثوب الأبيض أظهر من غيره من الألوان وقع التشبيه به، قاله ابن دقيق العيد. قوله: (بالماء والثلج والبرد) قال الخطابي: ذكر الثلج والبرد تأكيد، أو لأنهما ما آن لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال. وقال ابن دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو، فإن الثوب الذي يتكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء، قال: ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو وكأنه كقوله تعالى ويؤيده ورود وصف الماء بالبرودة في حديث عبد الله بن أبي أوفى عند مسلم، وكأنه جعل الخطايا بمنزلة جهنم لكونها مسببة عنها، فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيا عن الماء إلى أبرد منه. وقال التوربشتي: خص هذه الثلاثة بالذكر لأنها منزلة مـن السماء. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون في الدعوات الثلاث إشارة إلى الأزمنة الثلاثة " فالمباعدة للمستقبل، والتنقية للحال، والغسل للماضي " انتهى. وكأن تقديم المستقبل للاهتمام بدفع ما سيأتي قبل رفع ما حصل. واستدل بالحديث على مشروعية الدعاء بين التكبير والقراءة خلافا للمشهور عن مالك، وورد فيه أيضا حديث " وجهت وجهي الخ " وهو عند مسلم من حديث علي لكن قيده بصلاة الليل. وأخرجه الشافعي وابن خزيمة وغيرهما بلفظ " إذا صلى المكتوبة " واعتمده الشافعي في الأم، وفي الترمذي وصحيح ابن حبان من حديث أبي سعيد الافتتاح بسبحانك اللهم، ونقل الساجي عن الشافعي استحباب الجمع بين التوجيه والتسبيح وهو اختيار ابن خزيمة وجماعة من الشافعية وحديث أبي هريرة أصح ما ورد في ذلك، واستدل به على جواز الدعاء في الصلاة بما ليس في القرآن خلافا للحنفية. ثم هذا الدعاء صدر منه صلى الله عليه وسلم على سبيل المبالغة في إظهار العبودية، وقيل قاله على سبيل التعليم لأمته، واعترض بكونه لو أراد ذلك لجهر به، وأجيب بورود الأمر بذلك في حديث سمرة عند البزار، وفيه ما كان الصحابة عليه من المحافظة على تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته وإسراره وإعلانه حتى حفظ الله بهم الدين، واستدل به بعض الشافعية على أن الثلج والبرد مطهران، واستبعده ابن عبد السلام، وأبعد منه استدلال بعض الحنفية به على نجاسة الماء المستعمل.
|